الصلاة .. الصلاة
يحيى بن موسى الزهراني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ اله وحده لا شريك له ، شهادة حق ورضى ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، نبي العدل والهدى ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً .. " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " … أماّ بعد :
فإذا أردنا أن نفتح نافذة كي نطل منها على أحزان المسلمين ، وجراحاتهم ، لانفتحت أمامنا نوافذ لا تعد ولا تحصى ، فلا توجد بقعة من بقاع المسلمين إلا وهي تئن ، ولها نشيج ونحيب ، فأي نافذة نفتح ، ومن خلال أي نافذة نطل ، فكلما نظرنا من نافذة لطختنا الدماء البريئة ، وأحرقتنا نار الغيرة ، ومزقتنا حمم الأخوة ، فلكم الله أيها المسلمون في كل مكان ، وعفواً أيها الأخوة ، فلنغلق تلك النوافذ جميعاً وقلوبنا هناك ، ولنطل على نافذة أخرى نتلمس من خلالها أسباب الهزائم والخسائر التي منيت بها الأمة ، فلما فتحت قبرص ، فُرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض ، وبكى أبو الدرداء فقال له جبير : أتبكي في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله ، فقال أبو الدرداء : " ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره ، فبينما هم أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم المُلْك ، تركوا أمر الله عز وجل فصاروا إلى ما ترى " ، ولهذا جاء في الأثر : " إذا عصاني من يعرفني ، سلطت عليه من لا يعرفني " ، فكم غرقت الأمة اليوم في أوحال الذنوب والمعاصي ، وكم غاصت في لجج الآثام والكبائر ، حتى دارت عليها الدوائر ، وحاق بها مكر الله ، جزاء وفاقاً ، وما ربك بظلام للعبيد .
إن الذنوب لهي أكبر معول لهدم الدين في النفوس ، وأعظم معين للأعداء ، ألا وإن من أعظم الذنوب والمعاصي التي عُصي الله بها في الأرض ما جاء على لسان ذلك اليهودي الذي قال : " إذا أراد المسلمون أن ينتصروا علينا فلا بد أن يكون حضورهم في صلاة الفجر مثل حضورهم في صلاة الجمعة " ، نعم يا عباد الله ، إذا أردنا النصر والفوز على الأعداء من شياطين الإنس والجن ، فيجب أن يكون حضورنا في جميع الفروض الخمسة كحضورنا في صلاة الجمعة ، هذا ما شهدت به الأعداء ، والحق ما شهدوا به ، فلماذا يفكر الكثير من المسلمين في الصلاة في بيوتهم دون الحضور إلى مقر الصلاة وهي المساجد ، واعلم يا من تصلي في بيتك وتهجر بيوت الله إنك مهما عشت في هذه الدنيا فلا بد أن تدخل المسجد إما حياً أو ميتاً ، فاحرص على دخوله حياً متذللاً لله خاشعاً لله ، طائعاً لله ولرسوله ، قبل أن تدخله محمولاً على أعناق الرجال ميتاً ليصلى عليك ، فحينئذ لا ينفعك عملك ولا تجارتك ولا منصبك ولا مكسبك ولا أولادك من الله شيئاً ، وإليكم هذه القصة ، هذا رجل آتاه الله قوة في جسمه وفتوة في عضلاته ، فنسي أن الله هو القوي المتين ، كان يسمع داعي الله فلا يجيبه ، أما إذا سمع داعي الهوى والشهوات أسرع في إجابته ، وكل همه جمع المال من أي طريق كان ، كان يعمل حمالاً يحمل البضائع في الأسواق ، وذات يوم دخل متجراً وهو يحمل بضاعة ، فسقط عليه جدار فوقع على ظهره ، فأصيب بشلل كلي أفقده القدرة على المشي والحركة فصار حياً ميتاً ، قد حكم عليه بعدم الحركة طوال الحياة ، حتى الخارج من السبيلين لا يملك إخراجهما بنفسه ، فيحتاج إلى ثلاث ساعات على الأقل لإخراجهما بعد ألم عسير لا يعلمه إلا الله ، وهكذا هي حياته نكد وألم وتعب ، لم يعرف المسجد يوماً ، فعاقبه الله عقاباً أليماً ، وسأله أحد الزائرين عن أمنيته الآن ، فقال : أتمنى أن أحضر صلاة الجماعة . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين .
يا تاركاً للصلاة ويا هاجراً لبيوت الله ويا مستهيناً بأوامر الله : هل تذكرت هادم اللذات ومفرق الجماعات ، هل تذكرت مفارقة المال والأهل والأولاد ، هل تذكرت يوماً تكون فيه من أهل القبور ، هل تذكرت ضيق القبور وظلمتها ، ووحشتها وكربتها ، هل تذكرت عذاب القبر وحياته وعقاربه ، هل تذكرت عندما يضرب الفاجر بمرزبة من حديد يغوص في الأرض سبعون ذراعاً ويصيح صيحة يسمعه كل الخلائق إلا الإنس والجن ، هل تذكرت عندما تسأل في قبرك أتوفق للجواب أم تحيد عن الصواب ، فيا ويلك كيف نسيت الموت وهو لا ينساك ، ويلك كيف غفلت ولم يغفل عنك ، وويل لك كيف تؤثر دنياك ولا تدري غداً ما يفعل بك ، فأعد للسؤال جواباً ، وللجواب صواباً ، وإياك والتفريط في جنب الله فالله معك يسمعك ويراك ، إياك والتسويف ، ولا تقل ما زلت في مقتبل العمر ولسوف أتوب ، فالموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً ، ولا شاباً ولا شيخاً ، ولا غنياً ولا فقيراً ، ولا وزيراً ولا أميراً ، ولا رجالاً ولا نساءً ، " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد "
أمـا والله لـو عـلـم الأنام *** لمـا خـلـقوا لما غفلوا وناموا
لـقـد خـلـقوا لما لو أبصرته *** عـيـون قـلوبهم تاهوا وهاموا
مـمـات ثم قـبـر ثم حـشر *** وتـوبـيـخ وأهـوال عـظام
فيا من تركت الجمع والجماعات ، ويا من تسمع المنادي ، ينادي كل يوم وليلة خمس مرات ، يا من أنت في هوى وشهوات ، يا من أنت في ضياع وغفلات ، أما آن لك أن تستجيب لداعي الله في قلبك ، أما آن لك أن تقلع عن غيك وذنبك ، أما آن لك أن تعود إلى ربك ، فيا أيها العبد الضعيف ، يا أيها العبد الفقير إلى رحمة ربه ، كم تماديت ، وكم تعاليت على ربك ، وهو القوي شديد العقاب ، الذي له ملك السموات والأرض ، الغني عن طاعتك ، واعلم أن لله يمهل لك ويمد ، فأنقذ نفسك من النار ، ومن الخزي والبوار ، من الذي سيجادل عنك في قبرك ويوم أن تحشر وحدك ، أتركت الصلاة يائساً من رحمة الله ، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، أم تركت الصلاة آمناً من مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أم هل ضمنت الجنة وأمنت من النار ، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول : " والله ما أدري ما يفعل بي وأنا رسول الله " .
ألا فاعلموا أن مقام الصلاة عظيم ، وقدرها عند الله كبير ، ولهذا فرضها وشرعها من فوق سبع سماوات ، فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، وعموده الذي لا يقوم إلاّ به ، وهي الفارقة بين الإسلام والكفر ، والفاصلة بين الإيمان والشرك ، قال صلى الله عليه وسلم " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " وقال صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " ، وقال صلى الله عليه وسلم " خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة " . وعن عبدالله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً ، فقال : " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف " ، وإنما خصّ هؤلاء الأربعة لأنهم رؤوس الكفر ، فتارك الصلاة إماّ أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته ، فمن شغله عنها جمع المال وكسبه بأي طريق ومن أي مكان وتهاون في أمر الصلاة فهو مع قارون ، ومن شغله عنها ملكه وإدارته فهو مع فرعون ، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان ، ومن شغله عنها تجارته ومحلاته وعمله من أجل كسب المال وتهاون في أمر الصلاة فالنوم والعمل أفضل من الصلاة عنده فهو مع أُبي بن خلف وكل أولئك أئمة الكفر والطغيان . قال صلى الله عليه وسلم : " ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة " .
إخوة الإيمان : إن الشيطان عدو البشرية جمعاء ، حريص كل الحرص على صرف المسلم عن هذه الصلاة ، لأن من انصرف عن صلاته فحتماً سينصرف عن بقية أحكام الشريعة .
وإنه والله لا دين لمن لا صلاة له ، ولا حظ له في الإسلام . ولا قدر له عند الله الملك العلام ، إن للشيطان حيلاً ماكرة يمكر بها على المسلم ، حتى يضيع عليه دينه فيقذفه في نار جهنم والعياذ بالله ، وله طرقاً عديدةً يحتال بها على ضِعاف الدين ، فإن استطاع أن يمنع المسلم من الصلاة بالكلية فإنه يبذل لذلك كل ممكن وكل مستحيل ، وإن لم يتمكن من منعه منها احتال عليه بمنعه من الصلاة مع الجماعة ، ثم منعه من أدائها في وقتها ، وأغراه بالتكاسل والتسويف ، فيُحرَمَ المسلم أجر الصلاة وتبقى عليه تبعة تأخيرها وعقوبة عمد ذلك فيها . إن الواقع المر ، والحاضر التعيس الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم شاهد على استحواذ الشيطان عليهم إلاّ من رحم الله منهم وعصم ، وإلاّ فالغالبية العظمى ، والكثرة الكاثرة من المسلمين تهاونوا في أمر الصلاة ، وتقاصروا عن أدائها في أوقاتها ، فما أصبرهم على النار ، إن حال المسلمين اليوم مع الصلاة حال محزنة وحال مخزية ، فقد خف ميزان الصلاة عندهم وتساهلوا في شأنها ، وصار التخلف عنها أمراً هيناً ، بل لا يلقى له بال ، : " رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل " .